سورة النمل - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27)}.
التفسير:
وما يكاد سليمان يخرج من هذا الموقف الذي وقفه مع النملة، حتى يلقاه موقف آخر، مع طائر، وديع لطيف، أقرب إلى النملة في لطفها، وحسن مدخلها للأمور التي تعالجها.. وهو الهدهد وكأن سليمان قد نسى هذا الموقف الذي كان فيه مع جماعة النمل منذ قليل، وزايلته تلك المشاعر التي وقعت في نفسه هناك.. وها هو ذا يلبس سلطان الجلال، ويمسك بصولجان الملك، ويضرب بسيفه! {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ}.
الهدهد.. هذا الطائر الوديع المسكين.. يتخلّف عن هذا الحشد، ولا يحضر هذا الحفل، فيتوعّده، صاحب السلطان بأشدّ العذاب والنقمة! {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً.. أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ.. أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ}!! أما للهدهد عذر يمكن أن يقوم لتخلفه هذا، ويدفع عنه هذا العذاب؟
ألا يجوز أن يكون مريضا؟ ألا يصح أن يكون قد وقع في شباك صائد؟ ألا يعرض للهدهد ما يعرض للناس من أمور تعطل إرادتهم، أو تدفع بهم إلى غير ما يريدون؟ ألا سأل سليمان عن الهدهد أولا، وطلب إلى بعض جنده أن يأتوه بالخبر اليقين عنه؟ ألا اطمأن إلى سلامته قبل أن يسأل عن تأخره عن أخذ مكانه في هذا الحشد؟ وماذا يغنى الهدهد في هذا الجمع العظيم؟ وماذا يجدى أو يضير إذا هو حضر أو تخلف، وبين يدى سليمان من الحشود والقوى مالا حصر له؟.
إنه سلطة السلطان، وناموس الملك.. الطاعة والولاء، لحساب الطاعة والولاء، ولسلطان الهيبة والجلال..!
وفي قول سليمان: {ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ} هو علم من علم سليمان الذي آتاه اللّه.. فهو حين ينظر فلا يرى الهدهد، يتهم نفسه أولا، ويتشكك في أن تكون حواسه قد خدعته: {مالى لا أرى الهدهد؟} ولم يقل: أين الهدهد؟ ولم يقل: إن الهدهد غائب!.
وهذا هو شأن أصحاب العلم، إذا التمسوا حقيقة من الحقائق، فلم يجدوها بين أيديهم، تشككوا في أسلوب تفكيرهم الذي لم يصل بهم إلى الحقيقة، ثم أعادوا البحث والنظر.. حتى يجدوا ما يطلبون.. أما إذا التمس المرء الحقيقة ثم لم يجدها، ثم كان ذلك مدعاة له إلى إنكارها، فذلك ليس من أسلوب العلماء، ولا من طرق تحصيل العلم.
فسليمان، إذ لم ير الهدهد.. وقف موقف الشك. حتى ينجلى الموقف.
إنه لم يره، وقد يكون موجودا، وقد يكون غائبا! ثم استبان له بعد هذا، أن الهدهد غائب!.. ومن هنا كان هذا الوعيد بالعقاب الأليم له! ويطلع الهدهد على سليمان بما لم يكن يحتسب، ويهجم عليه، وهو الأعزل الضعيف، بسلطان أقوى من سلطانه، وجيش أعز وأقوى من جيشه، وعلم أكثر وأشمل من علمه.
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ.. فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ. وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}!! لقد انقلبت الآية، وانعكس الوضع. وها هو ذا الهدهد الضعيف الأعزل، الذي تنتظر هذه الحشود الحاشدة من الجن والإنس والطير، مصيره، ومصرعه، بين مشفق، وشامت، ولاه- هذا الهدهد، يحاكم سليمان، وينتقص قدرته، ويتهمه بالقصور عن أن يرى ما حوله، وأن يدير هذه القوى التي بين يديه الدعوة إلى اللّه، وهداية الضالين من عباده، لا في هذه المظاهر الاستعراضية، التي لا ثمرة لها.
لقد حاكم، هذا المخلوق الضعيف الأعزل، ملك الملوك في عصره.
حاكمه، ووضعه موضع الاتهام، وهو في أبهة ملكه.. وعلى أعين الملأ من جنده.. من الجن والإنس والطير!! {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ، فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}! فلم يكن هذا الطائر الضعيف الصغير، مجرد مكتشف، وعالم، بما لم يعلم به سليمان وحسب، بل إنه كان داعية إلى اللّه، وإلى الإيمان به.. فهو ينكر على المشركين شركهم، ويسفه أحلامهم، ويحقر آلهتهم وما يعبدون من دون اللّه!.
إنه يدين سليمان في هذه الإنسانية الضالة، التي ينتمى إليها سليمان، باعتباره واحدا من عالم الناس! ثم ماذا بقي لسليمان من فضل على هذا المخلوق الضعيف؟
إن سلطان سليمان- كملك- قصر عن أن يمتد إلى ما وصل إليه سلطان الهدهد، وأحاط به علمه!.
وإن دعوته كنبيّ.. لا تقوم على أكثر من هذه الدعوة التي يدعو بها الهدهد.. وإن حجته على دعوته، ليست بأقوى من حجة هذا الهدهد! فماذا بقي للإنسان في أكمل صوره، وأحسن أحواله، وأعلى منازله.؟
ماذا بقي له من فضل، على أضعف مخلوقات اللّه وأقلها شأنا.. كالنملة والهدهد؟
إن جهل الإنسان بأسرار هذا الوجود، هو الذي يخيل إليه أنه سيّد هذا العالم، وأنه قد علم مالم يعلمه غيره من مخلوقات اللّه.
وهذا- لا شك- رحمة من رحمة اللّه بالإنسان.. إذ لو انكشف له الغطاء عن أسرار هذا الوجود، وما أودع الخالق في مخلوقاته من عجائب وأسرار- لمات الإنسان حسرة وكمدا، على ضآلة شأنه، وكثافة جهله، ولانطفأت في نفسه شعلة الأمل التي تدفىء صدره، وتغريه بالاندفاع وراء المجهول، لكشف الستر المحجّب وراءها، ولوقف من هذا الوجود موقف الذليل المهين أمام سلطان جليل مهيب.. وصدق اللّه العظيم: {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.
(85: الإسراء) ولعل خير شاهد لهذا الذي نقول، ما يعانيه الغرب اليوم من قلق نفسى، وحيرة فكرية، واضطراب سلوكيّ.. ومرّد هذا كله- فيما نرى- إلى هذا القدر الضئيل، الذي انكشف للعقل من أسرار الوجود، دون أن يرتبط ذلك بالإيمان باللّه، وإضافة هذا إلى علمه وقدرته، وإبداعه في خلقه.. فكان الأثر المباشر لهذا، هو ضمور شخصية الإنسان، وصغاره، وضآلة شأنه بين عوالم الوجود.
وليست هذه النظرات المتشائمة، التي قامت عليها هذه المذاهب المادية السوداء، التي يعيش فيها الغرب اليوم- ليست إلا أثرا من آثار هذه الكشوف العلمية، التي ألقت أضواء خافتة على أسرار هذا الوجود، فظهر الإنسان في شعاعاتها المضطربة المتراقصة، كأنه حشرة حقيرة، أو دودة هزيلة، أو قرد خلقه اللّه ليتسلى به في أبديته الطويلة المملة، كما يقول كبير الفلاسفة نيتشه!.
ونعود إلى القصة! فهذا سليمان، يلقى الهدهد، بعد أن تلقى منه هذا الدرس القاسي- يلقاه بشىء من اللطف والموادعة، فيقول له:
{سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين}.
وسليمان يعلم أن الهدهد صادق فيما جاء به من ألباء! ومن أين تعرف الطيور الكذب، وليس بينها وبين الإنسان قرابة أو نسب؟
سليمان، يعلم أن الهدهد شهد بما علم، وتحدث بما رأى، ولكن سلطان الملك تخرج كبرياؤه إن هو تعرّى أمام الرعية.. فكان من السياسة أن يلقاه بهذا القول الذي ينبىء عن أن سليمان ما زال هو صاحب الدولة والسلطان.. {سننظر!!}.
إنها كلمة صاحب الأمر، وقاموس أرباب السلطان! وفيم سينظر؟ إنه سينظر في أمر هذا الهدهد.
أصدق فيما يقول.
أم كان من الكاذبين؟! إنها كلمة جارحة، تكلم فؤاد هذا المخلوق.
وتجرح كرامته.. إنه في معرض الاتهام بالكذب!! وإنه لا يزال واقعا تحت سيف العقاب الراصد له!! وأكثر من هذا، فإن سليمان لم يقل له: أصدقت أم كذبت، فيكون اتهامه واقعا على تلك الحادثة، وإنما رماه بهذه الكلمة {أم كنت من الكاذبين} أي ممن شأنهم الكذب في كل حال.. إنه إحقار للهدهد، وإلقاء به إلى التراب، بعد أن ارتفع في عين هذه الحشود الحاشدة بسبب ما جاء به من أنباء.


{اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)}.
التفسير:
ولا ينظر سليمان شاهدا يجىء به الهدهد، ليشهد له بصدق ما يقول، ولا يسمح له بمزيد من الوقت، يعرض فيه مزيدا من علمه، وبيانه، وحكمته، أمام هذه الرعية، التي تفف كلها في ولاء وخشوع بين يديه.. فكيف لهذا المخلوق الضعيف أن يصول ويجول، ويعرض من علمه ما لم يكن لسليمان به علم؟
وأين إذن صولة الملك وصولجانه؟ وأين هيبته وأين سلطانه؟
لقد قطع سليمان على الهدهد السبيل إلى هذا المرتقى الذي ارتقاه.
وبكلمة واحدة آمرة، أنزله من هذا المكان، وأزاله عنه.. وسرعان ما أصبح الهدهد، في هذا الوضع الذي كان له بين أبناء جنسه.. جنديا من جنود سليمان، وخادما من خدمه.. وها هو ذا يتلقى من سليمان أمرا بالذهاب إلى حيث يريد منه أن يذهب.
{اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ}.
وإلى هنا ينتهى دور الهدهد في القصة، ويغرب وجهه الذي كان منذ لحظات، الوجه الذي تعلقت به أنظار مملكة سليمان كلها، فلا يرى له أحد وجها، بعد هذا!! ولا تتعرض القصة لشىء من رحلة الهدهد إلى سبأ، يحمل كتاب سليمان إلى القوم، كما لا تذكر شيئا عن ملكة سبأ، وهي تجد كتاب سليمان بين يديها، وما وقع في روعها من هذا الأمر العجيب، الذي طلع عليها من حيث لا تدرى! كما لم يذكر القرآن ما كان بينها وبين أهل سرها من حديث في هذا الحدث العظيم.. كل ذلك لم تعرض له القصة القرآنية، فتلك أمور مقدر لها أن تقع حتما، على صورة أو أكثر من صورة.. وفي هذا الفراغ يتحرك ذهن القارئ، وتستيقظ مشاعره، حيث يرى لزاما عليه أن يملأ هذا الفراغ بأية صورة يجدها مناسبة لهذا المكان، وبهذا يتاح للناس- في كل زمان ومكان- أن يتصوروا ويتخيلوا، وأن يشاركوا بهذا التصور والتخيل، في بناء القصة، وألا يظلوا في عزلة عنها، غرباء عن مجريات أحداثها.. وبهذا تتقيد الخواطر بالقصة، وتتفتح لها المشاعر، ويستيقظ لها الوجدان، الأمر الذي تتكشف به مواقع العبرة والعظة منها.
وتنتقل القصة إلى مشهد جديد.
فهذه ملكة سبأ، قد دعت إليها وجوه القوم في مملكتها، ثم ها هي ذى تطلع عليهم بهذا الكتاب الذي ألقى إليها، وتفضى إليهم بما فيه!.
{قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}.
ولأول مرة نعرف- نحن النظارة- مضمون هذا الكتاب الذي حمله الهدهد.. إنه رسالة من ملك إلى ملكة.. والهدهد، وهو حامل هذه الرسالة، ليس من شأنه أن يسأل عن مضمونها، وليس من وضعه في القصة أن يعرف محتواها.. وبهذا ظلت الرسالة سرا محجبا، حتى بلغت الجهة الموجهة إليها.. وهذا تدبير تقضى به الحكمة والكياسة، وتفرضه أصول الحكم ومقتضيات السياسة.
ومن جهة أخرى.. فإن الملكة كذلك، لم تفصح لقومها عن الأسلوب الذي بلغتها به هذه الرسالة، ولم تكشف عن وجه الرسول الذي حملها إليها.. بل ألقت إليهم الخبر مجهّلا هكذا: {إنى ألقى إلى كتاب كريم} وفي هذا التجهيل للمصدر الذي جاء بالكتاب، ما فيه من إيحاءات كثيرة بأنها الملكة الساهرة على رعيتها، الحافظة لأمن دولتها، وأنها تملك من القوى الخفية التي لا يراها قومها- ما يعينها على ضبط أمورها وحياطة شعبها.. وهكذا يضفى على الملكة بهذه الحركة البليغة البارعة، جلال فوق جلالها، وروعة فوق روعة سلطانها.
وفي وصف الرسالة بأنها كتاب كريم، أدب من أدب الملوك، تقابل به الملكة ما في الرسالة من أدب النبوة والملك معا.. فقد كانت الرسالة موجزة العبارة، وضحة المعنى، بيّنة القصد، لا تحمل وعيدا، ولا تهديدا، وإنما تحمل دعوة إلى السلام والإسلام.
وحين يستمع القوم إلى هذا الخبر الذي ألقت به الملكة إليهم، تدور الرءوس، ويكثر الهمس، واللغط وتتقلب العيون، تتفرس في الوجوه، وما انطبع عليها من آثار لهذا الخبر المثير!.
ويجىء صوت الملكة حازما محكما، يقطع مسارب الخواطر، ومجريات الأفكار:
{يا أَيُّهَا الْمَلَأُ.. أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ}.
إنها لم تدعهم إليها لتلقى إليهم بهذا الخبر لمجرد العلم به، وإنما ليشاركوها الرأى فيه، وليشيروا عليها بما ينبغى أن تواجه به هذا الموقف.
صورة كريمة، للحاكم الحكيم.. الذي يتوخى الخير، والأصلح لرعيته.. فلا يبرم أمرا إلا عن رأى ومشورة، يشارك فيها أهل الرأى والمشورة.. {ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} أي حتى تشهدوا معى هذا الأمر، وتروا فيه رأيكم.
{قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ}.
؟
وصورة كريمة نبيلة للمحكومين، الذين يبادلون الحاكم إخلاصا بإخلاص، وحبا، بطاعة وحب معا!.
ومع هذا، فإنها لم تشأ أن تقطع برأى، بعد أن فوض إليها القوم الرأى والأمر.. بل جاءت تعرض عليهم وجهة نظرها.
{قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ}.
وهنا فراغ كبير تتركه القصة ليملأه القوم بهمساتهم وهمهماتهم، ومحاوراتهم.. وإذ لم يرتفع صوت يعارض هذا الرأى الذي تراه الملكة في الملوك، وتعنى بالملوك هنا، الملوك الذين كانوا على دولة سليمان.. مثل طالوت، وداود، وسليمان.. وهذا يعنى أن الملكة كانت على علم بأحوال سليمان ودولته، وما بين يديه من سلطان، على حين لم يكن لسليمان علم بها، وبما عليه سلطانها!!.
نقول إن الملكة إذ لم تر صوتا يرتفع بمعارضة رأيها هذا، صرّحت بما اعتزمت أن ترد به على تلك الرسالة.
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}.
إنها حركة تريد بها اختبار ما عند سليمان، وتستطلع النية التي ينتوبها معها.
وتنتقل أحداث القصة من سبأ إلى بيت المقدس، في لحظة خاطفة.
وها نحن أولاء نرى الرسول وما معه من هدايا بين يدى سليمان.
{فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ.. قالَ: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ.. فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ}.
لقد وقع ما كانت تقدره الملكة، وما كانت تحذّر قومها منه: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً}.
وقد رجع مبعوثهم الذي بعثوا به إلى سليمان لينقل إليهم ما تهددهم به: {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ}.
ثم تجرى الأحداث لاهثة متلاحقة.
فما كاد رسول الملكة يبرح مجلس سليمان، حتى يسبقه سليمان إلى تنفيذ وعيده الذي توعدهم به.
{قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}.
انظر كيف تجرى الأحداث منطلقة كأنها ومضات برق خاطف؟
فهذه القوى الهائلة المسخرة لسليمان، تتسابق إلى تلبية ندائه، وتحقيق رغباته.. وأنت ترى هنا عظمة هذا السلطان وروعته، حيث يطلب سليمان الشيء، فتتزاحم بين يديه القوى القادرة على تنفيذه، وتتخاضع وتتخاشع بين يديه، ثم لا يحوجه الأمر- مع هذا- أن يتكلف له كلمة واحدة يقولها، أو إشارة يشير بها.. وإنما هو يأمر، فيجد ما أمر به حاضرا عتيدا بين يديه! {قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}.
ولم يفعل سليمان شيئا، وإنما وجد العرش الذي طلبه مستقرّا عنده! والعفريت من الجن، هو أقوى جماعة الجن وأشدهم بأسا.
والذي عنده علم من الكتاب. قد يكون أحد رعايا سليمان، من الذين أخلصوا دينهم للّه، فأتاهم اللّه من العلم ما يقدرون به على ما لا يقدر عليه الجن.. وقد يكون سليمان نفسه، وهو الأرجح عندنا، وذلك لأمور منها:
أولا: أن سليمان أراد بقوله {يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}.
أراد أن يلفت الملأ إلى تلك المعجزة القاهرة التي سيظهرها اللّه على يديه.. فدعا من عنده قوة منهم، أن يتصدى لهذا الامتحان، وأن يأتيه بالعرش.. وكان العفريت من الجن، هو الذي ندب نفسه لامتثال هذا الأمر، فقال: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ}.
وكان هذا آخر ما في جهد الملأ من إنس وجن وطير أن تفعله.. وهنا واجه سليمان هذه القوة التي أذهلت الجمع بما مكن اللّه له من قوة، وما آتاه من علم، فقال مخاطبا صاحب القوة الخارقة: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}.
، فهذا الخطاب للعفريت، هو خطاب للجماعة كلها في شخصه، إذ كان هو ممثل أقوى قوة بين يديها.
وثانيا: أن اللّه سبحانه وتعالى ذكر في آية سابقة أنه آتى داود وسليمان علما، فقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً..} فبهذا العلم فعل سليمان ما فعل، وبهذا العلم اتصل سليمان بالعوالم الأخرى، فعرف لغة الطير، وسمع همس النملة، واطلع على ما يجرى في محيطها.
وثالثا: قوله تعالى على لسان سليمان: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}، هو إقرار بفضل اللّه عليه، أن آتاه هذا العلم، الذي صنع به هذه المعجزة! أما الكتاب، فهو كتاب اللّه، وهو ما في اللوح المحفوظ من خزائن علمه.. فمن هذا العلم يتلقى أهل العلم علمهم: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ}.
وفي هذه الحادثة يتجلى فضل العلم، وما يبلغ به أهله من مقامات عالية، تتخاضع بين يديها كل قوة، يذل لها كل سلطان. إذا كان هذا العلم من موارد الحق، وجرى في قلوب سليمة ونفوس طيبة.! وإن الإنسان بهذا العلم يقهر أعتى قوة خفية، هى الجن.
والذين يستكثرون على العلم أن ينقل عرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام في غمضة عين، والذين يقفون من هذا الخبر القرآنى موقف التوقف، أو التشكك أو الاتهام، حسبهم أن ينظروا في آيات العلم الحديث، وما حقق من معجزات في عالم المادة، حيث ينقل صور الأشياء من سطح القمر إلى الأرض في لحظة خاطفة على لوح التليفزيون.
فإذا كان هذا هو سلطان العلم المادي على المادة، فهل ينكر أن يكون سلطان العلم الروحي على المادة أضعاف ما للعلم المادي عليها؟ إن العلم المادي ما هو إلا إشارة خافتة من إشارات العلم الروحي، وليس إلا ومضة خاطفة من سناه المتألق! أما كيف يتم هذا، فإن تصوره ممكن- في ضوء العلم المادي-! فالمادة كما نعرف- وكما أشرنا إلى ذلك من قبل، هى نور، تجسد من اجتماع الذرات، وتركيبها على وجه خاص، وإذا كان ذلك كذلك، فإنه من اليسير على العلم الروحي أنه ينفخ في أية صورة من صور المادة، فتتحول إلى ضوء، ثم يستقبل هذا الضوء في أي مكان يريده، فينفخ فيه مرة أخرى فإذا هو على صورته الأولى.
ومن يدرى! فلعل العلم المادي يبلغ يوما، شيئا من هذا الذي في مجال العلم الروحي!.
ونعود إلى القصة:
وها هي ذى ملكة سبأ بين يدى سليمان.. وقد دبر لها سليمان امتحانا، يختبر به عقلها وذكاءها.
{قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ}.
لقد أجرى سليمان بعض التغيير في عرشها، دون أن يمس الصميم منه.
وحين ترى الملكة هذا العرش، ويسألها سليمان: {أَهكَذا عَرْشُكِ}؟
لم تشأ أن تقطع برأى، فهو أشبه شيء بعرشها فعلا.. ولكن كيف انتقل عرشها، وقد خلفته وراءها في مسيرتها إلى سليمان؟. ثم هي من جهة أخرى تعلم ما مع سليمان من قوى تفعل الأعاجيب، وتأنى بالمذهلات.. ألم تأتها رسالته على يد جند من جنوده، هو الهدهد؟. فكان جوابها هذا الجواب الحكيم، الذي توسط الأمر، فلم تنف ولم تثبت، بل قالت: {كَأَنَّهُ هُوَ}! وقد أعجب سليمان بهذا الرد الذكي الحصيف، وعدّه من آيات العلم، وثمرة من ثمراته.. فذكر بذلك، العلم الذي آتاه اللّه فقال، فيما بينه وبين نفسه.
{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}! ولم يقف بسليمان العجب من ذكاء الملكة، وعقلها عند هذا الحد.. بل إنه رأى أن هذا العقل الكبير، وما وعى من علم، كان جديرا به أن يهدى صاحبته إلى الإيمان باللّه، وأن يقيم وجهها للدين القيم.. فكيف لم تؤمن باللّه؟
وكيف تسجد للشمس من دون اللّه؟ أهذا ما يقضى به هذا العقل الكبير ويقبله؟ ويطمئن إليه؟ لا بد أن في الأمر شيئا! وينظر سليمان، فيرى الآفة التي تسلطت على هذا العقل، فاغتالت منطقه، وأفسدت عليه وجوه الرأى، حتى ضلت صاحبته هذا الضلال، وركبت هذا السفه.
إن موروثات الآباء والأجداد، من الضلال، هى التي غلبت على هذا العقل وما فيه من ذكاء، وما اجتمع له من علم..!
{وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ}.
أي حجبها عن الإيمان باللّه، ما نشأت على عبادته من دون اللّه، لأنها ولدت في قوم كافرين، فورثت الكفر عنهم، ونشأت عليه منذ طفولتها، فخالط عقلها، وسكن في مشاعرها!.
وتلك هي الآفة التي تسلطت على عقول كثير من ذى العقول، فأفسدتها، وأضلتها عن سواء السبيل.. وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان إلى طلب التحرر من موروثات الآباء والأجداد، وأن يعيد بناء عقله- متى بلغ الرشد- على البحث والنظر، فما رآه صالحا، قبله، وما وجده فاسدا، دفعه وتخلى عنه.
وحين وجد سليمان نفسه أمام هذا العقل الذكي، لم يشأ أن يدخلها في دين اللّه بسلطانه عليها، وامتلاكه لأمرها، بل رأى أن يقودها إلى الإيمان بعقلها، لتتعرف إلى اللّه سبحانه وتعالى بنفسها، فيكون هذا أقوم لدينها، وأثبت لإيمانها.
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
والصرح هو البناء العالي المزخرف، وسمى بذلك لأنه صريح خالص من الشوائب والعيوب.. والممرد: الأملس، ومنه الأمرد، وهو الذي لم ينبت شعر عارضيه.
إن هذا الصرح الذي دعاها سليمان إلى دخوله، والذي حسبته- لصفائه ونقاء جوهره- لجة ماء رقراق- هذا الصرح لا يمكن أن يقوم بيد بشرية، ولا يمكن أن يكون من صنع بشر.. إنه من قوة فوق قوة الإنسان، ومن تدبير فوق تدبيره.. وإذن فهى أمام معجزة قاهرة.. لا يستطيع العقل السليم إلا أن يسلم بها.
وإذن فلا بد من التسليم.. وقد سلّمت.
وإذن فلا بد من أن تؤمن بمن آمن به سليمان، وأن تعبده.. وقد آمنت! فقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
وانظر كيف كانت ثقتها بسليمان، بعد أن أراها من آيات اللّه التي بين يديه، ما جعلها تطمئن إليه، وتصدق دعوته بأنه نبى.. ولهذا فإنها تبادر إلى الإيمان باللّه من قبل أن يدعوها إليه، لأنها قد عرفت أن سليمان على الحق، ومع الحق.
ولهذا قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
! إنها مع سليمان، لأن سليمان مع الحق! وهكذا تنتهى أحداث القصة بهذه النتيجة، التي يحصلها العقل من مجريات هذه الأحداث.
وإذا كان مساق القصة إلى قريش، وإلى العرب، ثم إلى الناس جميعا- فإنها بهذا الأسلوب الذي يجىء بالموعظة في رقائق من المعاني، تخطر في براعة، وخفة، وتتحرك في وداعة ولطف، حيث تصيد الخواطر، وتملك المشاعر، وتأسر القلوب، دون أن تثير حربا، أو تريق دما- إنها- أي القصة- بهذا الأسلوب، هى رسالة قائمة بنفسها، لتدخل إلى مواقع الإفناع من العقول السليمة، فتسكن إليها، وتجد برد الطمأنينة والسلام في ظلها.


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ}.
هنا أمران، نود أن نقف عندهما، وهما:
أولا: مناسبة هذه القصة لما قبلها.
وثانيا: إفراد هذه القصة بالذكر وحدها، من غير أن تتصل بها قصة عاد، حيث يجرى دائما ذكرهما معا، في كل موضع ذكرت فيه إحداهما في القرآن الكريم.
فما مناسبة هذه القصة لما قبلها؟
المناسبة- واللّه أعلم- هى أن ملكة سبأ، مع ما كانت عليه من كفر موروث، حين رأت الصرح الممرد، عرفت صدق سليمان، وأنه على صلة بالسماء، فآمنت بما آمن به هو، واتبعت سبيله.. وأن ثمود قد طلع عليهم نبيّهم بآية من آيات اللّه، هى الناقة، فلم يروا فيها ما رأت ملكة سبأ في الصرح الممرد، بل كذبوا صالحا، ورموه بالسفه. فهذا موقف، وذاك موقف.
وكلا الموقفين بين يدى آية من آيات اللّه.. فيكون في تلك الآية عبرة وعظة لقوم، وضلال ومهلكة لآخرين.
ولعل هذا هو السر أيضا في ذكر قوم صالح، دون قوم هود، إذ لم يكن مع هود آية كهذه الآية التي جاء بها صالح.
وقوله تعالى: {فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ}.
{إذا} فجائية، وفيها إشارة إلى مبادرة القوم بالتكذيب، وإعلان الحرب على صالح بمجرد سماعهم لدعوة الحق التي يدعوهم إليها بقوله:
{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ}.
والفريقان المختصمان، هما صالح ومن اتبعه، وقومه الذين وقفوا منه موقف العناد والتحدي.. فكان بين الفريقين خصام وشقاق.
قوله تعالى: {قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
هو مما كان يراجع به صالح قومه، ليكشف لهم عن موقفهم الضال، الذي يرد بهم موارد التهلكة.. فقد استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به، إداهم ظلوا على ما هم عليه من كفر وضلال.
وهذا ما ذكره اللّه سبحانه وتعالى، عنهم في قوله سبحانه: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [77: الأعراف] وقد كان الأولى بهم أن يطلبوا جانب الأمن والسلامة، وأن يدخلوا في هذه الدعوة التي يدعوهم إليها نبيهم، فإن وجدوا خيرا، عاشوا فيه، واطمأنوا إليه، وإلا كان في يدهم أن يخرجوا من هذا الدين الذي دخلوا فيه.. أما أن يبدءوا بجانب الوعيد من الدعوة، فذلك هو الضلال، والسفه جميعا.
قوله تعالى: {قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}.
هذا هو جواب الحمقى السفهاء على دعوة الخير والهدى.. إنهم يستولدون من دعوة الخير التي يدعوهم إليها نبيهم، مواليد شؤم، تنعق في ديارهم، وتنعب فوق رءوسهم، بالويل والبلاء.. وهكذا تتغاير حقائق الأشياء في النفوس المريضة، تماما كما تتغاير طعوم المطعومات في الفم السقيم، كما يقول الشاعر:
ومن يك ذا فم مر مريض *** يجد مرا به الماء الزلالا
ويلقى {صالح} عليه السلام- هذا الرد الغبي السفيه، بإلفاتهم إلى اللّه الذي يدعوهم إليه وأنه- سبحانه- هو الذي بيده كل شيء يساق للناس، من نفع أو ضر، ثم بإلفاتهم إلى أنفسهم الغارقة في الفتنة والضلال، حيث لم يروا هذه الحقيقة من قدرة اللّه، وسلطان اللّه.. فقال: {طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أي أن حظكم المقسوم لكم من الخير والشر، هو عند اللّه تعالى، وفى خزائن علمه.. في كتاب مبين، ولكنكم في فتنة وعمى عن هذا الذي أقوله لكم.
وفي ذكر كلمة {قوم} إشارة إلى أنهم كتلة واحدة متضخمة من الفساد وأنهم كيان واحد، تحتويه فتنة، لا مخرج له منها.
ويستدل من هذا على أن القوم كانوا يزجرون الطير، ويتعرفون منه على ما سيقع لهم من خير أو شر، حسب تصورهم الفاسد.. وذلك أنهم كانوا إذا أراد أحدهم أمرا، ترصد لطير واقع على الأرض، ثم زجره، أي أشار إليه بيده أو بعصا، حتى يطير.. فإذا طار إلى يمينه، تفاءل به، ومضى لغايته، وإن طار إلى يساره تشاءم منه، وأمسك عن الغاية التي يريد!.
كما يستدل من هذا أيضا على أن قوم صالح كانوا عربا، وأن- صالحا عليه السلام- كان نبيا عربيا، وذلك قبل إبراهيم وإسماعيل عليه السلام.. أيام العرب العاربة.
قوله تعالى: {وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}.
وكما في كل جماعة رأس أو رءوس، تقودها، وتتولى تدبير أمرها، فكذلك كان في هذه الجماعة أكثر من رأس، لقد كان فيها تسعة رءوس، كلها فاسد، لا يدعو إلا إلى الشر، ولا يعمل إلا فيما هو شر.
والرهط، من الثلاثة إلى العشرة.
وليس المراد بالرهط هنا العدد، وإنما المراد به النفر أي الواحد، الذي يطلق على الجماعة أيضا.. وإنما ذكّر الرهط، للإشارة إلى أن الواحد من هؤلاء التسعة كان رأسا في القوم، وأنه أشبه برهط، من حيث أثره في الجماعة، وفي الشر الذي يخرج من بين يديه.
قوله تعالى: {قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ}.
قرىء: {لتبيتنه} ثم {لتقولنّ} بضمير الخطاب.
والتقاسم: تفاعل من القسم، وهو الحلف.. وذلك بأن يحلف كل واحد منهم للجماعة بما يحلفون عليه.. والبيات: الهجوم ليلا.. والولي: هو الناصر والقريب، والمراد به هنا وليّ الدم.
والمعنى، أن هؤلاء النفر، قد ائتمروا فيما بينهم، على أن يهلكوا صالحا وأهله، فأقسموا على ذلك، وجعلوا لتنفيذ هذه المؤامرة وقتا، هو الليل.
ثم اتفقوا كذلك على الموقف الذي يلقون به ولى الدم، لصالح وأهله، وذلك بأن ينكروا أنهم شهدوا مصرع صالح ومن معه.
وقوله: {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ}.
والضمير في أهله يعود على الولي، أي أنهم يقولون لهذا الولي، المطالب بالدم ما شهدنا مهلك أهله هؤلاء الذين تطالب بدمهم، ومنهم صالح.
وهذا أولى- في تقديرنا- من عود الضمير على صالح، وأنهم يقولون لولى الدم ما شهدنا مهلك أهل صالح، كما يقول بذلك المفسرون- وذلك ليتحقق قولهم: {وَإِنَّا لَصادِقُونَ} على تقدير أنهم لم يشهدوا فعلا مهلك أهله وحدهم، وإنما شهدوا مهلكه ومهلك أهله معه.. وإذن فهم صادقون بهذا التلبيس الذي لبسوا به شهادتهم!! هكذا يقول المفسرون، كأن القوم يتحرون الصدق في شهادتهم، فيخرجونها على هذا الوجه الذي هو الكذب في صميمه، وإن طلى بهذا الزيف المفضوح.
والقوم في قولهم: {وَإِنَّا لَصادِقُونَ} إنما يؤكدون الكذب الذي جاءوا به في قولهم لولى الدم ما شهدنا مهلك أهلك هؤلاء- وفيهم صالح وأهله {وَإِنَّا لَصادِقُونَ} فيما نقول.. فهكذا الكاذب دائما يحرص أشد الحرص على أن يزكى كذبه بمثل هذه الادعاءات، وأنه إنما يقول الصدق ويقسم عليه، كما يقول تعالى في شأن اليهود: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [14: المجادلة].
والسؤال هنا: كيف يتقاسمون باللّه، ويحلفون به وهم كافرون؟
والجواب على هذا أنهم كانوا يعرفون اللّه، ولكن معرفتهم تلك قد اختلطت بالضلال، فلم يعرفوا اللّه حق معرفته، بل عبدوا معه آلهة أخرى، وجعلوه إلها من آلهتهم، أو كبيرا لهذه الآلهة التي يعبدونها لتقربهم إلى اللّه زلفى، كما كان ذلك شأن مشركى العرب، ولهذا كانت دعوة صالح إليهم هى:
{اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} [61: هود]، أي أخلصوا العبادة له وحده، فما لكم إله غير اللّه.
قوله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
المكر: التدبير للأمر، والإعداد له قبل الأخذ في تنفيذه.
أي أنهم دبروا تدبيرا، ودبر اللّه تدبيرا.. واللّه سبحانه يعلم ما دبروا من أمر، وما أحكموا من خطط، وهم لا يعلمون ما قد دبر اللّه، وما أعد لهم من نكال وبلاء.
قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}.
الخطاب هنا للنبى، صلوات اللّه وسلامه عليه، ولكل من كان أهلا للنظر والاعتبار.. وفي هذا النظر إلى مكر هؤلاء الرهط، وإلى ما أعقب هذا المكر، يرى ما نزل بهم من نقم اللّه، وما حل بهم وبقومهم جميعا من هلاك لهم، وتدمير لديارهم! وهكذا يصيب الشرّ أهله، ثم يمتد فيشمل من كان معهم، ممن لم يشاركوا في هذا الشرّ، ولكنهم لم يتصدّوا للأشرار، ولم يأخذوا على أيديهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [25: الأنفال] ويقول سبحانه: {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً} [16: الإسراء].
وهكذا أرادوا الهلاك لصالح وأهله، فأهلكهم اللّه، وأهلك أهلهم جميعا.
قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
{خاوِيَةً} أي ساقطة متهدّمة، لا أثر لحياة فيها.. وهي منصوبة على الحال من {بُيُوتُهُمْ}.
والإشارة هنا، لفت للأنظار، إلى هذه الديار الخاوية، حيث ينظر المشركون إلى حيث متجه الإشارة، فلا يرون إلا أطلالا، يرى فيها أولو العلم وأهل النظر، آية من آيات اللّه، فيما يحل بالظالمين من بأسه، وما يرميهم به من عذابه! قوله تعالى: {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ} هو أشبه بالاستثناء من تلك الصورة التي تتمثل لعين الناظر.. مما حلّ بهؤلاء الظالمين المفسدين.
فهناك إلى جانب هذه الصورة للدّمار والهلاك، صورة أخرى لأهل السلامة والعافية، الذي نجوا من هذا البلاء، وخلصوا من هذا العذاب، وذلك بإيمانهم باللّه، وباتّقائهم بأسه وعذابه، بالأعمال الطيبة الصالحة.
فإلى جانب الشر دائما خير، وفي مجتمع الأشرار.. دائما أخيار.
وهذا الخير وإن صغر حجمه، هو الرّوح الذي يحفظ الحياة في هذا الوجود.. وهؤلاء الأخيار- وإن قلّ عددهم- هم الشعاع الذي يسرى في وسط هذا الظلام الكثيف.
قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}.
؟
أي واذكر لوطا إذ قال لقومه. {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ} وهي هذا المنكر الذي عرفوا به، والذي سيكشف عنه في الآية التالية.
وسمى هذا المنكر {فاحشة} و{فحشاء} لشفاعته وقبحه، ظاهرا وباطنا.
وفي قوله: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}.
إشارة إلى ما بلغ من استهتار القوم، واستخفافهم بهذا المنكر، حتى إنهم ليأنونه عيانا وجهرة بحيث يرى بعضهم بعضا وهم عاكفون على هذا الفحش، دون حياء أو خجل.. وإن بعض الحيوانات، لتدعوها طبيعتها إلى أن تتخفى وتستتر، فلا تطلع عليها عين، حين تتصل ذكورها بإناثها.. أما هذه الحيوانات الآدمية، فقد نزلت إلى هذا المستوي الخسيس، الذي لا ينزله إلا أدنى الحيوانات وأخسّها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [29: العنكبوت] أي يأتون هذا المنكر علنا في مجتمعاتهم وأنديتهم، كأنهم يأتون مكرمة من المكرمات.
قوله تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} هذه هي الفاحشة التي يأتيها القوم جهرة على أعين الناس، وهي اللواط واتصال الرجل بالرجل، كما يتصل الرجل بالمرأة، والذكر بالأنثى في عالم الحيوان.. وفي قوله {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}.
إشارة إلى أن هذا الضلال الذي هم فيه، وهذه الحيوانية الطاغية التي لبستهم، إنما هي من واردات الجهل.. وليس بين الإنسان والحيوان من فرق، إلا العلم، وأنه بقدر ما يحصّل الإنسان من العلم، بقدر ما تكون منزلته في الإنسانية، وبقدر ما يكون بعده عن عالم الحيوان..!

1 | 2 | 3 | 4